من الواضح أن (نوستر اداموس) يتوقف طويلا ، أمام بعض الشخصيات والأحداث ، التى كانت لها تأثيرات واضحة، فى مسار التاريخ .. فعبر كتابه الأشهر (قرون)، نجد العديد من الرباعيات ، التى تتحدث عن (هتلر) و(نابليون) ، وعن الحرب العالمية الثانية ، وحرب الخليج ، وغيرها من الأحداث الجسام .. وفى بعض رباعياته ، وبالذات تلك التى تغفل تحديد الزمن الفلكى لحدوثها ، نجد أنفسنا فى حيرة ، ونحن نتساءل عما كان يعنيه ، أو عمن يتحدث بالضبط.. وأكبر مثال على هذا ، هو الرباعية التالية : من أعمق جزء فى أوروبا الغربية .. سيولد طفل من أسرة فقيرة ..كلامه سيفتن الكثير من الشعوب ..وستتعاظم سمعته أكثر ، فى مملكة الشرق ..
فلقد توقف الباحثون طويلا أمام هذه الرباعية ، التى يمكن أن تنطبق على مرحلتين تاريخيتين ، وشخصيتين عالميتين ، يفصل بينهما قرن كامل من الزمان .. (نابليون بونابرت) ، و (أدولف هتلر) .. كلا الرجلين جاء من أصل وضيع ، وعائلة فقيرة ، و (النمسا) تعد عميقة بالنسبة لحدود (أوروبا) ، فى حين يمكن ترجمة الكلمة كلها إلى دنية ، فتنطبق تماما على (كورسيكا) ، مسقط رأس (نابليون) .. والرجلان امتلكا موهبة الخطابة ، وكانت لهما سمعة كبيرة فى الشرق ، أولهما عبر حملته الشهيرة ، والثانى من خلال خطبه الملتهبة ، ووسائل الإعلام ، وكراهية شعوب الشرق للاحتلال الإنجليزى والفرنسى ، وانتظارهم للنجاة منهما على يد جيوش (ألمانيا) النازية .. ولقد وجد كل اتجاه مؤيديه ، ومازال الفريقان يختلفان ، حتى لحظة كتابة هذه السطور ..
ولكن بالنسبة للرباعية الخاصة بالجنرال (فرانكو) ، فلم يحدث أى اختلاف على الإطلاق ، إذ جاءت الرباعيـة واضحة أكثر مما ينبغى ، وهى تقول : سوف يأتى ( فرانكو) إلى الجمعة من كاستيل ..السفراء سيرفضون ، ويتسببون فى انقسام ..مؤيدو (ريفيرا) سيحتشدون ..وسيحرم الرجل العظيم من دخول الخليج .. الرباعية لم تذكر اسم (فرانكو) فحسب ، وهى تشير إلى عودته من (المغرب) بعد نفيه فيها ، ومنعه من عبور البحر إلى(إسبانيا) ، والخلاف الشديد بعد عودة حزبه إلى السلطة، وإنما ذكرت أيضا اسم عدوه الديكتاتور (بريمودى ريفيرا) أيضا.. رباعية واحدة ذكرت اسمين فى وضوح ، وربطتهما ببعضهما ، على نحو يتجاوز كل حدود واحتمالات المصادفات ، إلى ما هو أكثر خطورة من هذا .. وهذا يعيدنا إلى الرفض التلقائى والعنيف لفكرة الرؤيا والتنبؤات المستقبلية ، على الرغم من أنه لايوجد سند قوى يمنع احتمال حدوث هذا، بل على العكس تماما ، ففى سورة (يوسف) نجد أن مسجونا قد شاهد رؤيا تحدد مصيره وكذلك رفيقه ، ونجد الفرعون يتنبأ بالسنوات العجاف .. كل منهم لم يكن مؤمنا، وربما كفوا وثنيين أيضا ، ولكن الله ( سبحانه وتعالى) جعلهم يرون ما سيحدث مستقبلا، وإن عجزوا عن تفسير ما رأوه ..
والعلم يؤمن بوجود هذه الهبة العقلية ، ويطلق عليها اسم (برى كوجنيشن pre-cognetion) ، أو (رؤية مالم يحدث السوفيتى؛ لفهم هذه الهبة، وقوانين حدوثها ، وهناك مئات الكتب عنها ، وهى كأية هبة ، تمنح للبشر دون تمييز للجنس أو النوع أو الديانة ، تماما كموهبة الرسم ، أو التمثيل ، أو أية مواهب أخرى .. حتى فى بعض الحالات العادية ، وربما حولنا أيضا ، نجد ما يمكنه رؤية المستقبل ، فى بعض الحالات المحدودة ، والتى يطلق عليها العامة عبارة (كشفت عنه الحجب) ، ولكننا لا نعتبرها قاعدة أبدا .. أنا شخصيا لدى تجربة فى هذا الشأن ، مع والد زوجتى ، الذى عانى مرضا عضالا لفترة طويلة، ثم أصابته حالة (انكشاف الحجب) هذه قبيل وفاته بأيام ، فراح يصف ، وبمنتهى الدقة، أمورا وأحداثا حدثت بعد وصفه لها بأيام .. وبنفس الدقة والتفاصيل ..
هناك إذن كيمائية خاصة، أحدثها المرض الطويل فى الجسد ، جعلت العقل ينجلى ، ويمتلك قدرة مدهشة على اختراق الزمن ، وكشف المستقبل ، على نحو قد تساعده قدراته على وصفه ، أو تفسيره ، أو مجرد الإشارة إليه .. وما دام هذا يحدث فى ظروف خاصة ، فالمنطق العلمى يقول : إن القدرة كامنة فى مكان ما من المخ ، وكل ما تحتاج إليه هو عامل قوى ، لتحفيزها وإطلاقها .. ونحن لا ندرى ماذا أصاب (نوستر الاموس) بالضبط .. لقد كانت حياته طويلة حافلة ، على نحو يصعب تسجيله واستيعابه كله ، ثم إنه قد واجه مرض الطاعون ، وتعامل مع مرضاه آلاف المرات ، دون أن يصاب به أبدا .. فماذا لو أن هذا قد غير كيماويات جسده على نحو ما ؟! وماذا لو أنه قد ولد بتلك الهبة الربانية ، التى صقلتها دراساته للرياضيات ، وعلوم الفلك ؟! أمور عديدة ، ينبغى أن نستوعبها وندركها ، قبل أن نبادر بمهاجمة كتابه ، أو حتى تأييده .. المهم أن نلغى من أسلوبنا وتفكيرنا كل الحساسيات، والتعنتات، والعصبيات ، والأحكام المسبقة ، ومادام التنبؤ بالمستقبليات قد صار علما ، فنتعامل مع تنبؤات (نوستر اداموس) باعتبارها نظرية علمية ، نبحث صحتها أو زيفها .. وفى كل التجارب العلمية والمعملية ، لايمكننا أن نحصل أبدا على نتيجة دقيقة مائة فى المائة ، لذا فقد اعتبر العلماء أن الوصول إلى نتيجة تبلغ الخمسة والسبعين فى المائة ، يعنى الإيجاب ، فى معظم الأحوال ..
والباحثون والدارسون لتنبؤات (نوستر اداموس) يشيرون إلى أن نسبة النجاح ، فى رباعياته القديمة ، أو التى تحققت لحداثها بالفعل ، تبلغ النسبة المقبولة علميا ، بحيث يصعب اعتبار الأمر مجرد مصادفة .. فالمصادفات لا يتكرر حدوثها فى المسرح الواحد أبدا .. وعندما يتحدث (نوستراداموس) عن معركة (واترلو) ، التى حدثت بعد ثلاثة أشهر تقرييا ، من عودة (نابليون) من جزيرة (ألبا) ، وعن التحالف بين (بلوخر)، الذى كلن يرمز إليه باسم (الخنزير الروسى البرى ) ، و(جروتشى) الأسد البريطقى ، والذى هزمه ( نابليون ) ، الذى تخذ لقب رمزا له ، نجده يقول فى رباعيته : فى الشهر الثالث ، وعند شروق الشمس .. يلتقى الخنزير البرى والأسد ، فى ساحة المعركة .. وعندما يرفع الأسد المرهق بصره إلى السماء .. يرى عقابا يدور حول الشمس .. وعلى الرغم من أن الرباعية لم تذكر أية أسماء ، إلا أنها ذكرت الرموز الخاصة بكل المتحاربين ، دون خطأ واحد ، مما يبعد لأمر عن أى احتمتا لكونه مجرد مصادفة عشوائية..
وككل الأمور والظواهر الخارقة للمألوف ، وجد (نوستر اداموس) فريقا شديد الحماسة لتنبؤاته ، وآخر شديد الإنكار والاستنكار لها ، ولكن من المؤكد أنه قد جذب اهتمام وانتباه الفريقين ، طوال خمسة قرون .. وبالذات مع حادثة برجى مركز التجارة العالمى .. ففى طبعة الكتب التى بين يدى ، والتى تعود إلى السبعينات، تحدث الباحث عن عدد من تنبؤات (نوستر اداموس) المستقبلية - فى ذلك الحين - وعلى رأسها ضربة (نيويورك) ، التى ستتسبب فى إشعال الحرب العالمية الثالثة .. وطوال البحث ، حاول الباحث أن يجد تفسبرا لتلك التنبؤك ، التى لم يختلف أى باحث آخر فى تفسيرها .. فى أساسياتها على الأقل .. فبالنسبة لكل الباحثين ، تم الاتفاق على أن الحديث عن المدينة الجديدة يشير دوما إلى (نيويورك) ، باعتبار أن اسمها مشتق من مقاطعة (يورك) القديمة ، ثم إنها تقع فى عالم لم يكن له وجود ، فى زمن (نوستر اداموس) .. ومن هذا المنطلق ، بدت لهم نبوءات الرجل ، الخاصة بالمدينة الجديدة عجيية .. ومخيفة أيضا .. ولكنهم حاروا فى تفسيرها ..
بعضهم افترض أنها تتحدث عن كارثة طبيعية ، والبعض الآخر تمادى فى تفكيره وخياله ، فتصور أنها تشير إلى غزو فضائى ، والبعض الثالث اعتبرها حربا نووية .. ولكن المدهش أنهم توقفوا جميعا عند كلمة فى رباعية تقول : نار تزلزل الأرض ، فى مركز الأرض ..هزات قوية تصيب المدينة الجديدة .. صخرتان عظيمتان تنهاران .. ثم تضفى أريثوازا لونا أحمر على نهر جديد .. فمنذ أكثر من عشرين عاما ، تساءل الباحثون ، لماذا استخدم ( نوستر اداموس ) كلمة (برج) (Tour) ، عندما وصف الصخرتين العظيمتين ، فى رباعيته هذه ؟! والمدهش، أننا نعرف الآن لماذا فعل، هذا ، عندما قال : إن برجين عظيمين سينهاران !! فلقد انهارا بالقعل ، فى مركز التجارة العالمى ، فى الحادى عشر من سيتيمبر 2001 م.. ولكنها ليست الرباعية الوحيدة حول أحداث سبتمبر ، فى الولايات المتحدة الأمريكية.. هناك رباعيات أكثر إثارة .. بكثير .
انتهى الجزء الرابع بحمد الله
ويليه الجزء الخامس والأخير بإذن الله