فجأة تعرضت الولايات المتحدة الأمريكية لضربة عنيفة ، انطلقت من قلبها ، وعلى متن طائراتها المدنية ، ودون سابق إنذار ، لتهوى كصاعقة من الرعب على رمزين ضخمين ، من رموزها الاقتصادية والعسكرية . مبنى التجارة العالمى فى (نيويورك) .. ومبنى وزارة الدفاع (البنتاجون) فى (واشنطن) . ولساعات وأيام طويلة بعدها ، انشغلت أجهزة الإعلام ، فى العالم أجمع ، بنقل ورصد وتسجيل ما حدث ، ومناقشة احتمالاته ، وتوقعاته ، وكل الإجراءات الى اتخذت بشأنه .. ومن أقصى العالم لأقصاه ، لم يتوفف الحديث أيضا عن فلكى وطبيب فرنسى ، مات منذ ما يقرب من خمسة قرون ، ويدعى (نوستراداموس) .. والسبب .. وبكل بساطة ، هو أن (نوستراداموس) هذا قد تنبأ بما حدث ، وأشار إليه ، وسجله فى أشهر كتبه .. وأيضا منذ ما يقرب من خمسة قرون !!
وكما يحدث فى كل مرة ، انقسم العالم إلى قسمين ، قسم انبهر بنبوءة الفلكى الفرنسى ، ذى الأصول اليهودية ، وقسم رفضها وأنكرها واستنكرها تماما، استنادا إلى قاعدة تقول : «كذب المنجمون ولو صدقوا» ، باعتبارها قاعدة لاتقبل الجدل والمناقشة ، على الرغم من أنها ليست واردة فى القرآن الكريم ، أو فى أحد الأحاديث النبوية، أو حتى فى الإنجيل أو التوراة .. وعندما نستخدم هنا عبارة كل مرة ، فإننا نعنـى أنها ليست أول مرة يثار فيها هذا الجدل العنيف ، حول تنبؤات (نوستراداموس) ، التى تضمها كتابه الشهير (قرون) ، والذى يعد ، من الناحية العلمية والفعلية ، أكثر الكتب مبيعا ، خلال ما يزيد على أربعمائة سنة كاملة ، لم تنفد خلالها طبعاته ، ولو لعام واحد، مما يمنحه مزية خاصة ، لم يتمتع بها كتاب كتبه بشرى ، على مدى التاريخ .. فحتى فى حياة (نوستر اداموس ) ، وبعد وفاة الملك ( هنرى) ، التى تنبأ بها الرجل، وبدقة مدهشة، غضبت الملكة (كاترين دى مديتشى) من الفلكى ، وكأنما تسببت نبوءته فى مصرع الملك ، مما دعاه إلى الفرار بعيدا عنها ، خوفا على حياته ، خاصة وأن ذلك العهد قد اشتهر بمحاكم التفتيش ، التى كان من السهل أن يقع رجل مثل (نوستر اداموس) فى قبضتها، بتهمة السحر والهرطقة، ليلقى مصرعه حرقا بكل بشاعة .. وبلا رحمة ..
وخلال الحرب العالمية الثانية ، وقعت نسخة من كتاب (نوستراداموس) الأشهر فى يد زوجة (جوبلز) وزير إعلام العهد النازى .. ولقد هالها وأفزعها ، وأثار رعبها حتى النخاع، ما استخلصته منه ، حتى إنها أيقظت زوجها من نومه ، لتلخص له ما توصلت إليه ، بكلمات مرتجفة ، حملت كل انفعالاتها.. وفى البداية ، لم يستوعب (جوبلز) الأمر أو يهضمه ، حتى وضعته زوجته أمام معادلة مبهرة .. فعلى الرغم من أن الكتاب ، الذى تحمله فى يدها ، كان طبعة عام ١٩٢٢ م، إلا أنه كان يحوى رباعية مثيرة إلـى أقصى حد ، تقول : الحيوانات التى سيقرصها الجوع ستعبر الأنهار الشطر الأكبر من ساحة القتال سيكون ضد ( هسلر ) سيجر القائد فى قفص حديدى عندما يتجاهل ابن ألمانيا كل قانون . وقفز (جوبلز) من فراشه ، وهو يحدق فى كلمات الرباعية ، ويطالعها مرة بعد مرة .. صحيح أن الرباعية قدمت اسم ( هتلر ) بـ (هسلر) ، ولكنها واضحة أكثر مما ينبغى.. إنه (هتلر) المقصود ولا شكل ..
وقبل حتى أن تشرق الشمس ، كان (جوبلز) يرتدى زيه العسكرى ، ويهرع إلى مكتبه ، ليضع خطة لاستغلال كتاب (نوستراداموس) هذا فى حرب دعائية جديدة ، لم يلجأ إليها جهاز دعائى من قبل .. ولقد راقت الفكرة للفوهلر كثيرا ، ووجد أنها دعاية غير مسبوقة ، لذا فقد انتقى (جوبلز) كل ما يمكن أن يوحى بعظمة (ألمانيا) وانتصاراتها ، من رباعات الفلكى الفرنسى القديم ، وقام بطباعة كل هذا فى نشرة دعائية خاصة ، تمت ترجمتها إلى الفرنسية والإنجليزية والهولندية، لتلقيها الطائرات على كل البلدان الأوروبية ، التى تتحفز وتترقب ما سيقدم عليه القائد النازى ، بجيوشه الجرارة ، التى اجتاحت ( النمسا) ، بحجة استعادة ما انتزع منها فى الحرب العالمية الأولى ، وباتت تتأهب لغزو (أوروبا) ، وفرض سيطرتها على العالم أجمع .. وفى البداية ، لم تبال المخابرات البريطانية بهذا الأمر ، بل وسخرت منه أيضا ، حتى فوجئت بتأثيره الرهيب ، ليس على المجتمع البريطانى فحسب ، ولكن على (أوروبا) كلها أيضا .. وهنا كان لابد من اتخاذ قرار حاسم حازم فى هذا الشأن ، نظرا لأن الناس ، فى كل الأزمنة والأزمات ، تولى التنجيم والفلك والتنبؤات المستقبلية اهتماما بالغا .. ففى الحروب والأزمات ، تضعف النفوس ، وكما قالت الكاتبة البوليسية الخالدة ( أجاثا كرستى) : « إذا ما ضعفت النفس، استسلمت للخرافة» . وكإجراء مضاد ، جمعت المخابرلت البريطانية كل ما يحويه كتاب ( قرون ) ، من تنبؤات تختص بهزيمة (ألمانيا) وانتحار (هتلر) ، بعد حصاره فى ( برلين ) !! وألقت كل هذا بطائرتها على الشعب الألمانى ، كما ترجمته إلى الفرنسية والهولندية أيضا ، لرفع معنويات شعوب ( أوروبا) الأخرى ..
وهكذا أصبح (نوستراداموس) جزءا من الحرب العالمية الثانية ، بعد وفاته بأربعة قرون كاملة .. والسؤال المهم الآن هو : من (نوستر اداموس) هذا ؟! وكيف احتل كتابه هذه المكانة المدهشة عبر القرون ، حتى فى عصر التكنولوجيا والتقدم ، والذى تنبا هو أيضا بقدومه ، فى رباعيته المدهشة : يقضى على الأوبئة ، ويصبح العالم قرية صغيرة وفى سلام ، ترتاح الأرض لمدة طويلة .. الناس ستسافر فى أمان ، عبر الجو والبر والبحر ثم تندلع الحروب من جديد . هل يمكن لأحد أن يتصور مدى عبقرية هذه الرباعية المدهشة ، وخاصة عندما يكتبها رجل من القرن السادس عشر ، بكل إمكانياته المحدودة ؟! القضاء على الأوبئة ، من خلال برامج صحية ، وأمصال ولقاحات متطورة، والعالم يصبح ، بفضل تطور وتكنولوجيا الاتصالات مجرد قرية صغيرة ، والناس تسافر عبر الجو !! عبقرية بكل المقابيس ، حتى ولو كتت مجرد تنبؤاك علمية، لرجل بعيد النظر ، وليست تنبؤات فلكية مستقبلية..
و(ميشيل دى نوستر داموس) هذا، صاحب تلك التنبؤات المدهشة ، ينتمى إلى أسرة يهودية أوروبية قديمة ، فجده ( بيير دى نوستر اداموس) تاجر غلال يهودى قديم ، اهتم كمعظم أقرانه بالعلم والدرسة ، إلى جانب عمله، وأنجب عددا من الأبناء ، من بينهم ( جاك نوستر اداموس ) ، والد (ميشيل) ، الذى تزوج من امرأة ثرية ، وسرعان ما اعتنق معها المسيحية وابنه ( ميشيل ) بعد فى التاسعة من عمره .. ولقد ولد (ميشيل) هذا فى الرابع عشر من" ديسمبر ، عام ١٥٠٣ م ، وهو أكبر أربعة إخوة ، وأكثرهم ذكاء منذ وفى مرحلة متقدمة من سنوات صباه ، أدرك جده (بيير) موهبته ، فاحتضنه ، وعلمه اللاتينية، والإغريقية والعبرية، بالإضافة إلى مبادئ الرياضيات والفلك والتنجيم ..
ولأن تلك الفترة كانت فى عهد محاكم التفتيش ، فقد خشى والده (جاك) أن يقع الصبى فريسة لتهمة ظالمة ، واستعاده من جده ، ليرسله لدراسة الطب فى (مونبلييه) ، وعمره لم يتجاوز التاسعة عشرة بعد .. وفى تلك الفترة ، ودون مقدمات، ظهرت موهبة (نوستراداموس) فجأة ، فبينما كان يرحل مع بعض أصدقائه ، التقى براهب صغير السن ، يحصل على رزقه من تربية الخنازير ، فاتجه إليه باكيا ، وكأنما تدفعه إلى هذا قوة تفوق إرادته ، وانحنى أمامه ، ملقبا إياه بصاحب القداسة.. وكانت دهشة أصدقائه بما فعله بالغة، ولقد سأله أحدهم لمادا فعل هذا ، فأجابه (ميشيل) ، وكأما يتحدث عن حقيقة : - لأنه هكذا ينبغى أن أفعل .. والعجيب أن هذا الراهب (فليتشى بريتى) ، قد أصبح فيما بعد ، وبد وفاة (ميشيل) نفسه البابا الجديد ، عام ١٥٨٥م!!
المهم أن (ميشيل دى نوستراداموس ) قد درس الطب ، وأبدى فيه تفوقا ملحوظا، أهله للحصول على شهادته بتفوق ، ليعود بها إلى أسرته ، التى بدت أكثر منه فرحا وزهوا بما حصل عليه ابنها .. ولكن علاجات ( ميشيل ) وأسلوبه أثارا دهشة العديدين من أقرانه ، واستنكارهم أيضا.. حتى جاءت الكارثة الرهبية .. الطاعون الأسود .. وهنا كانت مفاجآت ( نوستر اداموس ) مدهشة .. وإلى أقصى حد ..
انتهى الجزء الأول بحمد الله
ويليه الجزء الثانى بإذن الله