منذ تسعة وعشرين قرنا من الزمان، وحوالى عام ٨٥٠ ق م. أى قبل (أفلاطون) بخمسمائة عام ، كتب الشاعر العظيم (هوميروس) ملحمتيه الشهيرتين الخالدتين ، (الإلياذة) و(الأوديسا) ..
وانبهرت الدنيا بما كتبه (هوميروس) ، وانشغل الأدباء عبر العصور بخياله الجامح ، وانهمك الدارسون لقرون وقرون، فى تحليل أفكاره وعباراته ، وتصوراته البديعة المرهفة ، ويتفاعلون بعقولهم وقلوبهم مع أسطورة المدينة الخيالية (طروادة) ، وذلك النسيج المبدع من الأفكار ، الذى أحاط به (هوميروس) قصة حربها ، بخيال جامح مثير ..
ومع مرور السنوات والقرون ، وقر فى العقول والقلوب والأذهان أن (طروادة) هذه مكان خيالى ، وأن حربها ليست سوى إبداع شاعر عظيم ، و ...
وفجأة ، فى عام ١٨٧١م، جاء الأثرى الألمانى (هينديش شليمان) ؛ ليهدم كل هذا رأسما على عقب ، ويباغت العالم كله بحقيقة جديدة .. حقيقة (طروادة) .. ففى ذلك العام ، وفى منطقة (هيسارليك) فى شمال غرب (تركيا) وفى نفس الموقع الذى حدده (هوميروس) فى ملحمتيه الشهيرتين ، كشف (شليمان) بقايا (طروادة) ..
كان الكل يسخر منه، عندما راح يبحث عن مدينة خيالية حاملا معوله فى يد، وملحمة (هوميروس) فى اليد الأخرى واتهموه بالحماقة والخبل ، لأنه يبذل كل هذا الجهد ، استنادا إلى ملحمتين أدبيتين، وليس إلى مراجع علمية أو تاريخية مؤكدة..
ولكن (شليمان) فعلها ، وعثر على (طروادة) ، وانتشلها من بين الأنقاض ، ومن تحت الرمال والركام .. وهنا انخرست كل الألسنة المعارضة والساخرة .. وتحدثت ألسنة أخرى .. ألسنة راحت تتساءل : لو أن (طروادة) ، التى تعامل معها الكل باعتبارها خيال محض ، قد برزت من تحت الرمال ، كحقيقة واقعية ، تتحدى كل معارض ، فماذا عن (أطلانطس) ؟!
هل يمكن أن تكون بدورها حقيقة ؟!
هل ؟!
هذا السؤال طرحه جمع هائل من العلماء ، ومن الباحثين والدارسين ، والمهتمين بتاريخ وأسطورة (أطلانطس) ، وعلـى رأسهم (إيجناينوس دونيللى) ..
و(دونيللى) هذا شاب نابه ، ولد فى (فيلادلفيا) الأمريكية ، عام ١٨٣١م، وأثبت نشاطا وذكاء غير عاديين ، طوال فترات صباه وشبابه، حتى إنه استطاع أن ينضم إلى رابطة المحامين ، فى الثانية والعشرين من عمره، وهذا ما لم يكن يبلغه المجتهد حينذاك ، قبل الثلاثين على الأقل ..
وفى الثامنة والعشرين من عمره ، وإثر اهتمامه بالسياسة وبعدها يأربع سنوات ، أصبح عضوا فى (الكونجرس) ، الذى قضى فيه دورتين كاملتين، مدتهما ثمانى سنوات ، اشتهر خلالها بأنه خطيب مفوه، ونائب محترم، ومحاور قادر على جذب انتباه واهتمام وتقدير واحترام كل من يتعامل معه ..
وعلى الرغم من كل هذا، كان (دونيللى) يعانى من وحدة شديدة ، بعد وفاة زوجته، وانتقاله إلى (واشنطن) فراح يقضى كل وقته فى القراءة ، ويلتهم كتب مكتبة (الكونجرس) التهاما .. ومن بين عشرت الموضوعات ، التى قرأها ودرسها (دونيللى) جذب انتباهه ، وخلب لبه ، وأشعل عقله موضوع واحد .. (أطلانطس) ..
وبنهم لامثيل له ، راح (دونيللى) يقرا كل ماكتب عن (أطلانطس) فى عشرات ، بل مئات الكتب ، ثم راح يجرى دراساته الخاصة حولها ، واهتم بشدة بكشف (شليمان) لبقايا (طروادة) ثم جمع كل هذا، بعد سنوات من العزلة والدراسة ، ليصدر كتابه (أطلانطس وعالم ما قبل الطوفان) فى صيف عام ١٨٨٢م..
وفور صدوره؛ ولأنه يحوى خلاصة عمر بأكمله ، حقق هذا الكتاب شهرة واسعة ، ونجاحا منقطع النظير ، مما شجع (دونيللى) على أن يصدر ، فى العام التالى مباشرة ، كتابه الثانى (راجناروك.. عصر النار والدمار ) الذى ناقش وفند الكوارث الطبيعية ، التى يمكن أن تكون السبب ، فى غرق ودمار (أطلانطس) ..
وتعددت طبعات كتب (دونيللى) ، وأيقظت عشرات التساؤلات فى الرءوس، وأشعلت عشرات الاستفسارات والاقتراحات ، خاصة وأنه قد ربط ما بين حضارات العالمين القديم والجديد ، وأثبت ـ على نحو نظرى - أنه كان هناك حتما اتصال ما بين (أوروبا) والأمريكتين ، يتم عبر قارة وسيطة ، هى (أطلانطس) ..
وفى نظريته ، افترض (دونيللى) أن (أطلانطس) كانت لها مستعمرات عديدة، خارج حدودها ، وأن أقدمها هى (مصر) ، التى أكد أن حضارتها هى صورة طبق الأصل، من حضارة (أطلانطس) القديمة .. فقد كان (دونيللى) يتصور أن الحضارة المصرية القديمة قد ظهرت فجأة ، وأنها لم تمر بمراحل التطور المعتادة لكل حضارة ، وأن علومها قد نبتت من منبع مجهول ، مما جعله يفترض أن ذلك المنبع هو (أطلانطس) نفسها ..
إذن ، ففى رأيه ، نظريته ، كانت (أطلانطس) هى أم الحضارات ، وزعيمة العالم القديم - إن صح القول - والأصل الذى انتقلت أفرعه فيما بعد ، إلى كل مكان فى العالم ..
وعلى الرغم من أن أساطير مختلف الشعوب ، تتفق فيما بينها على هناك حضارة قديمة فائقة ، تفوقت يوما على كل ما حولها، إلا أن (أفلاطون) نفسه ، فى محاورتيه الشهيرتين ، لم يزعم أن (أطلانطس) هى أصل كل الحضارت ، بل ولم يشر إلى هذا حتى..
ولذا فقد قوبلت نظرية (دونيللى) بتأييد شديد ، من عدة جهات ، وبهجوم عنيف للغاية من جهات أخرى .. وكما يحدث لكل مفكر ، يتجاوز الحدود المعتادة فى عصره، تحول (دونيللى) إلى قديس فى نظر البعض ، وشيطان فى نظر البعض الآخر ، إلا أن هذا لم يمنع الجانبين من الاعتراف ، بأنه أول من وضع قواعد البحث عن قارة (أطلانطس) وأسطورتها المفقودة ، وأول من أسس ما يعرف باسم علم (الأطلانطية) (AtIantiology) أو العلم الذى يبحث أسس الحضارة الاطلانطية القديمة ، ودلائل واحتمالات وجودها ، وهو علم معترف به ، فى كافة أنحاء العالم المتحضر..
وفى الوقت الذى احتدمت فيه المناقشات والمحاورات ، حول (دونيللى) ونظريته ، والذى بدأ فيه بعض الباحثين يعلنون أخطاءها ، ونقاط الضعف والغموض فيها ، وينشرون نظرياتهم المناهضة لها، والحقائق العلمية المرتبطة بها ، فاجأ الأثرى البريطانى سير (آرثر إيفانز) العالم كله بحقيقة جديدة ، رجته من الأعماق .
فمنذ سنوات طوال ، نقل الأثريون والمؤرخون أسطورة قديمة ، تدور فى جزيرة (كريت) حول حب الملك (مينوس) ابن (زيوس) كبير الآلهة ، من بشرية تدعى (أوروبا)، وحول إنسان آلى من البرونز ، له جسم آدمى، ورأس ثور ، كان يجوب شواطئ (كريت) الصخرية ليبعد عنها الغزاة ، ويلقى على سفنهم الصخور الهائلة الضخمة .
وفى الوقت نفسه، كان هناك وحشا آخر ، يدعى (المينوتورس) ، له يضا جسد إنسان ورأس ثور، سجنه المك (مينوس) فى قصر التيه ، أو (اللابيرنث) حيث يتم تقديم سبعة من خيرة شباب (اليونان) وسبع من خيرة بناتها كقربان له كل عام ، حتى جاء الفارس المغوار (ثيسيوس)، فتحداه، وذبحه، وحفظ دماء شباب وبنات اليونان ..
أسطورة مبهرة مثيرة ، ككل الأساطير القديمة ، خلبت الألباب ، وحبست الأنفاس ، وشغلت العقول لقرون وقرون ، باعتبارها أيضا قريحة عقول متفوقة ، ونتاج خيال جامح ، و .... وفجأة ، نقل سير (إيفانز) كل هذا فجأة إلى عالم الواقع ..
فى عام ١٩٠٠ م، وبقيادة (إيفانز) ظهرت أطلال وآثار الحضارة المينوية القديمة فى (كريت) .. ذلك الكشف أثبت أن أهل (كريت) كانو سادة عظام ، وتجارا ومستعمرين ، أخضعوا جيرانهم، وحصلوا منهم على الجزية ..
وأثبت أيضا أن قصة (مينوس) لم تكن مجرد أسطورة .. لقد كانت حقيقة .. حقيقة تقلب كل الحسابات رأسا على عقب .. وخصوصا حسابات الباحثين عن ( أطلانطس ) ..
وقبل أن يلتقط الناس أنفاسهم ، ويستوعبون كشف سير (آرثر إيفانز) المدهش ، كانت فى انتظارهم مفاجأة جديدة .. مفاجأة مدهشة .
انتهى الجزء الثانى
ويليه الجزء الثالث بإن الله