فى عام ١٨٦١م، اكتشف علماء الأثار أطلال قصر الملك (آشور بانيبال) ، حاكم مملكة (آشور) ، فى القرن السابع قبل الميلاد ، وبين تلك الأطلال ، عثروا على أعظم كشف أثرى وثقافى فى المنطقة.
عثروا على مكتبة كاملة سليمة تحوى آلاف الألواح الطينية ، لمكتوبة بأسلوب الكتابة المسمارية القديمة، ولتى تضم ثروة هائلة من المعلومات ، عن مختلف الأمور ، وعلى رأسها قوائم وسجلات كاملة ، لأسماء المدن والأقاليم ، والآلهة التى كانت تعبد أيامها ، هذا إلى جانب مئات القصائد ، وعشرات الأساطير ، والقواميس أيضا ..
قواميس باللغة الأشورية ، وبلغات اقدم منها، كالبابلية والسومرية، وقواميس تضم كلمات أشورية ومعانيها بلغات مختلفة ، بل وطرق نطقها أيضا ..
خمسة وعشرون ألفا ، من الألواح المعرفية ، تم نقلها جميعها إلى المتحف البريطانى فى (لندن) ، لوضعها تحت بصر ويد الباحثين ، وعلماء اللغات القديمة ..
ومن بين عشرات العلماء ، الذين انبهروا بهذه الذخيرة الأثرية المدهشة ، والذين قضوا عمرهم كله ، فى دراسة الألواح والوثائق وترجمتها ، كان العالم البريطانى (راولونسون) ، الذى عثر على اسم تردد أكثر من مرة فيها ، وهو اسم (ديلمون) ..
لم يكن الاسم جديدا أو غرييا ، فقد تم العثور عليه قديما ، فى نقش على جدار قصر الملك (سرجون الآشورى) يسجل فتوحات الملك وانتصاراته الحربية ..
وعلى الرغم من أن أحدا سواه، لم يتوقف كثيرا عند اسم (ديلمون) ، فقد انشغل (راولونسون) به كثيرا ، وراح يجمع المعلومات عن حضارة (ديلمون القديمة) التى وردت فى النقوش القديمة ، التى وردت فى النقوش القديمة ، باعتبارها جنة الله فى الأرض ..
ففى (ديلمون) كما تقول النقوش والأساطير ، كانت الأرض دوما نظيفة ومشرقة ، وكل شىء جميل وهادئ، حتى الأسد لا يفترس ، والذئب يصادق الحمل ، ولا أحد يمرض ، أو يتلم ، أو ييلغ من العمر عتيا ..
والحسناء فى (ليلمون) لا تحتاج إلى الاستحمام ؛ لأن كل شىء نظيف طاهر ، والماء متلألئ ، والدموع لاتزور العيون و ... ، و ... وصف أسطورى ومثالى للغاية ، جعل (ديلمون) تبدو أشبه بأسطورة خيالية ، منها بحقيقة واقعية ، يمكن الاقتناع بها ، أو تصديق وجودها..
ولكن (رلولونسون) نشر أبحاثا تشير إلى العكس تماما، ووحده ، من دون كافة علماء الأثار ، ظل يؤكد أن (ديلمون) حقيقة، بل ورصد طبيعتها ، وآلهتها ، وعلى رأسهم الإله أنزاك) ..
وكالمعتاد ، سخر الكل من أبحاث (راولونسون) ودراساته ،واتهمه البعض بالإغراق فى الخيال ، والغوص فى عالم الأحلام ..
ثم جاء علم ١٨٨٠م، ليكتشف الرحالة البريطانى (كابتن ديوراند) حجرا قديما ، فى مسجد فى البحرين ، عليه كتابة مسمارية قيمة ، تمت ترجمتها بمنتهى الدقة ، لتظهر عبارة تقول : «هذا قصر (ريمانوس) خادم الإله (أنزاك) ، من قبيلة عقير» ..
وهنا ، تبدلت كل الآراء ، وبدأ السؤال يطرح نفسه بشدة
ما حقيقة (ديلمون) ؟!
أهى حقيقة ، أم مجرد أسطورة ، وردت فى نقوش قديمة ؟!
وكإجراء طبيعى ، كلفت الجمعية الملكية الأسيوية (راولونسون) بمهمة تحليل تقرير (ديوراند) ، والتعليق عليه .. وفى تقرير ، ربط (راولونسون) مابين (ديلمون) و(البحرين) ، وأكد أن الأخيرة تنهض على أطلال الأولى ..
وفى عام ١٩٠٠ م، ومن خلال بعثة أثرية أمريكية ، من جامعة (بنسلفاينا) ، عثر (هيلير يخت) رئيس البعثة على خمسة وثلاثين ألف لوح سومرى تحوى طنا آخر من المعلومات فى (نيبور) وهى منطقة ما بين النهرين ، من بينها نص سومرى ، يشير إلى (ديلمون) باعتبارها أرض العبور ، والمكان الذى تشرق منه الشمس ..
ولقد عاصر ( إيجنايتوس دونيللى) هذا الكشف العظيم ، وربط آخر مقالاته بين (أطلانطس) و(ديلمون) قبل أن يتوفاه الله ، فى عام ١٩٠١ م، تاركا الأمر كله لمن بعده ..
أما حضارة (ديلمون) نفسها ، ققد انتظرت حتى الحرب العالمية الثانية ، عندما أتى (د . بيتركورنوال) ؛ لينقب فى تلال المدافن فى (البحرين) ، ويخرج بالأدلة والبراهين القاطعة ، علـى أن حضارة (ديلمون) لم تكن مجرد أسطورة ، بل هى حقيقة ، أعلنت عن نفسها، وأبرزت وجودها وآثارها للعالم كله..
الأساطير إذن ، تتحول ، واحدة بعد الأخرى ، من عالم الخيال ، إلى عالم الواقع والوضوح ..
(طروادة) ..
و( المينوتوروس) ..
و(ديلمون) ..
فماذا إذن عن (أطلانطس) ؟!
ما الذى يمنع كونها أيضا حقيقة واقعية، لقارة حكمت الدنيا يوما ، قبل أن تودى بها كارثة رهيبة، طبيعية أو صناعية، فتغرق بكل مافيها ، ومن فيها ، فى أعمق أعماق المحيط الأطلنطى ؟!
هذا ما طرحه الميثولجى الأسكتلاندى (لويس سبنس) فى مجلته ، ذات العمر القصير ، والتى حملت اسم الأسطورة نفسها.. اسم (أطلانطس) ..
وعلى الرغم من أن (سبنس) هذا لم يحظ بالشهرة الشعبية ، التى حظى بها نظيرة (دونيللى)، إلا أنه كرس جهوده للبحث عن القارة المفقودة ، ووضع خمسة كتب حولها، كان أشهرها (مشكلة أطلانطس) ، الذى نشر عام ١٩٢٤م، والذى فاز (سبنس) بسببه باحترام وترحيب المهتمين بأسطورة (أطلانطس) ، حتى إن أحدهم قال عنه : إنه أفضل كتاب نشر عن (أطلانطس) فى التاريخ ..
وعلى عكس نقاط نظرية (دونيللى) الحماسية ، ناقش (سبنس) نظريته بأسلوب هادئ ، وعملى ، ودقيق ، شأن أى عالم محترم؛ ليخلص منها إلى مجموعة من الحقائق ، تتلخص فى أنه كانت هناك بالفعل قارة ضخمة ، تحتل معظم منطقة شمال المحيط الأطلنطى ، وجزءا من جنوبه ، ولقد ظلت موجودة حتى أواخر العصر الميوسينى ، الذى يعود إلى ما يزيد على عشرة ملايين عام ، ثم بدأت تندثر ، نتيجة لعوامل طبيعة ، بركانية وزلز الية متعاقبة ، مما أدى إلى ظهور تكتلات جزرية ، أهمها (أطلانطس) ، بالقرب من مداخل البحر الأبيض المتوسط، وخلف أعمدة (هرقل) ، و (أنتيليا) ، القريية من جزر الهند الغربية الحالية، وكانت الاتصالات تتم بينهم ، عبر سلسلة من الجرر الصغيرة ..
ووفقا لنظرية (سبنس)، لم تختف (أطلانطس) فى يوم وليلة ، كما قال (أفلاطون) ولكنها ظلت قائمة ، حتى العصر البليستوسينى ، أسطورة اسمها (أطلانطس) (دراسة) قبل خمسة وعشرين ألف سنة ، تعرضت لمجموعة من الكوارث الطبيعية المتعاقبة ، حتى ما يقرب من عشرة آلاف سنة قبل الميلاد ، مما أدى فى النهاية إلى غرقها نهائيا ، فى حين ظلت (أنتيليا) صامدة لزمن أطول ، لتترك خلفها بعض البقايا فى النهاية ، وهى جزر ( الأنتيل) ..
وعلى عكس (دونيللى) قال (سبنس) إن حضارة (أطلانطس) لم تكن متقدمة تماما ، وإنما كانت حضارة بدائية إلى حد كبير ، إنها لم تعرف أبدا تشكيل أو استخدام المعادن .. ووفقا لنظريته أيضا ، انتشر سكان (أطلانطس) ، بعد غرقها ، فى أنحاء العالم القريبة ، وكانوا النواة لعدد من الحضارات المعروفة ، مثل حضارة (مصر) ، و(كريت) والحضارة الأزيلية فى (أوروبا) ، والتى ظهرت قبل عشرة آلاف عام قبل الميلاد ، وهو نفس التاريخ - تقريبا - لذى حدده ( لفلاطون) لغق (أطلانطس) ثم عاد (سبنس) ليؤكد أن حضارات (مصر) و( يوكاتان ) و(بيرو) قد ظهرت فجأة ، ودون مقدمات ، لتنتقل من العصر الحجرى إلى عصر التقدم ، دون المرور بمراحل وسيطة ، مما يوحى بأنها قد اكتسبت حضارتها من جهات أخرى ..
وهنا يقع (سبنس) فى تناقض عجيب، ما بين عدم تقدم (أطلانطس) ، ونقلها علامات الحضارة إلى الآخرين ، ولكنه ، على الرغم من هذا، يحظي حتى هذه اللحظة ، باحترام وتقدير العديدين ، وإن لم يقدم دليلا ماديا واحدا على كل ما قاله ..
ولم يقدم غيره أيضا هذا الدليل المنشود ..
حتى ظهر (إدجار كايس) ..
ولقد قدم (كايس) الدليل بأسلوب مدهش ، لم يتصوره أو يتخيله مخلوق واحد .. أبدا .
انتهى الجزء الثالث
ويليه الجزء الرابع بإذن الله