فى بداية القرن الأول من كتابة (قرون) ، شرح لنا (ميشيل دى نوستر اداموس) كيف حصل على تنبؤاته ، فيقول فى رباعيته الأولى : أجلس وحيدا فى الليل ، فى دراسة متكتمة إنها موضوعة على حامل نحاسى ثلاثى القوائم شعلة واهية تندفع من قلب الفراغ وترى ما ينبغى أن تؤمن به ؛ لأنه باطل . تناقض مدهش ، يبدأ به فلكى وعالم كتابا ، أصبح الأشهر عبر القرون ، فهو يصف لنا كيف يجلس فى خلوة ، مع شعلة على حامل ثلاثى نحاسى ، ثم يرى ما يرى .. وبعدها ينفى عن نفسه معرفته بالمستقبل ، باعتباره باطلا ، لا ينبغى له أن يصدقه .. أسلوب ذكى لتحاشى الاتهام بالسحر والهرطقة ، فلو أنه يقصد بالفعل ما يقول ، لما كتب الكتاب ونشره ؛ فأصغر عالم فى الوجود لا يمكن أن يفعل هذا .. وما يتحدث عنه (نوستر اداموس) أشبه بأساليب المتصوفين القدامى.. الخلوة ، والضوء الخافت ، والخشوع، ثم الرؤيا !! ولا أحد يدرى كيف تلى هذه الرؤيا ، ولكن بعض الدارسين يؤكدون أنها كانت تأتيه فى صورة سمعية بصرية ، يعجز هو نفسه عن فهمها واستيعابها ، فيكتفى بوصفها كما رآها وسمعها .
ودليلهم على هذا تلك الرباعة ، التى وصف فيها معركة جوية ، فى زمن لم يعرف حتى الطائرات الورقية ، والتى قال فيها : سيعتقدون أنهم رأوا الشمس فى قلب الليل عندما يرون الرجل الشبيه بالخنزير .. ضوضاء وصرخات ومعارك تدور فى السماء .. وستسمع المخلوقات الخنزيرية وهى تتحدث . وقبل أن تنفر من الوصف ، لارتباطه بالخنزير ، طالع صورة لطيار مقاتل ، وهو يرتدى قناعة ، وتخيل ما يمكن أن يصف به رجل من القرن السادس عشر هذا !! ولنتوقف لحظة عند الضوضاء والصرخات والمعارك والأضواء فى السماء ، ونقارن هذا كله بصوت الانفجارات والصواريخ ، ووهجها ، وصفير القنابل التى تهبط على الأرض ، ثم تربط كل هذا بأصوات الطيارين ، عبر اتصالاتهم دعنا نلتقط مشهدا من أحد أفلام الحروب ، وعرضه على شخص بدائى ، ولنر كيف يصفه !! إنها عبقرية حقيقية أن يصف شخص من زمن (نوستر اداموس) هذا المشهد المعقد ، بل والمستحيل فى زمنه وأيامه !
ولقد استخدم ( نوستر اداموس ) نفس الوصف البدائى ، لتفسير أمور تأتى بعده بمئات السنين ، وهو يتنبأ بمصرع الأخوين (كيندى) ، فى القرن العشرين ، عندما تم اغتيال (جون كنيدى) فى (دالاس)، فى وضح النهار ، برصاصة فى رأسه ، ثم اغتيل شقيقه (روبرت) بعده بخمس ستوات ، وهو يحتفل بانتصاره فى الانتخابات الرئاسية الأولية ، وما أعقب الحالتين من مشكلات علمية، عانت منها (بجلترا) و(فرنسا) و( إيطاليا) .. وفى هذا الشأن ، جاءت رباعية (نوستراداموس) تقول : الرجل العظيم تصرعه صاعقة فى وضح النهار .. فعلة أثيمة ، تنبأ بها الملتمس .. وبعدها سيخر الآخر صريعا فى الليل .. صراع فى ريمس ، ولندن ، ووباء فى توسكانيا . أمر واضح إلى حد مدهش ، ويتجاوز حدود المصادفات إلى ما هو أكثر عمقا .. تماما مثل تلك النبوءة، التى تحدثت عن ضرب (هيروشيما) و(ناجازاكى)، والتى حددت زمنها فلكيا بنهايات النصف الأول من القرن العشرين ، والتى تقول : قرب الميناء ، وفى مدينتين كبيرتين كارثتان تحدثان ، لم ير مثيل لهما قط .. جوع ، طاعون ، وأناس يطرحون خارجا بسيف الحرب ..بكاء وضراعة لله العظيم ؛ للحصول على مساعدات .. والمدينتان تقعان على البحر ، وكلاهما تعرضت لضرب بالقنبلة الذرية ، فى كارثتين لم يعرف التاريخ لهولهما مثيلا ، فى عام ١٩٤٥م.
مرة أخرى نبوءة مدهشة قوية إلى حد رهيب مثير .. وتنبؤك (نوستر داموس) ليست دقيقة زمنية كما يشيع البعض ، وإنما تتراوح نسبة الإزاحة فيها إلى ما يقرب من عشر سنوات ، سلبا أو إيجايا ، ولكن حتى هذا يضعها فى قائمة المدهشات ، وخاصة عندما تشير فى وضوح إلى أمور لم يكن من الممكن التنبؤ بها سياسيا أو منطقيا ، حتى فى الفترت الملاصقة لها ، مثل نبوءته عن قيام الثورة فى (إيران) ، وقوة تأثير (الخومينى) عليها ، من منفاه فى (فرنسا)، فحتى القيادات السياسية والعسكرية ، فى العالم أجمع ، لم تتوقع أو تتخيل إمكانية نجاح هذا، حتى لحظة حدوثه بالفعل .. وعلى الرغم من هذا ، فقد ذكره (نوستر اداموس) فى كتابه ، قبل خمسة قرون ، وهو يقول فى رباعيته : المطر والحرب والمجاعة لن تتوقف ، فى بلاد فارس .. إيمان عظيم جدا سيخدع الملك ..الأعمال التى تعد فى ( فرنسا) ستنتهى هناك ..علامة خفية لشخص ما ، لكى يتعامل برحمة .. إشارة واضحة لما حدث، على الرغم من غموض الرباعة ككل رباعيات (قرون) التى تحوى دوما شيئا من الحيرة ، فى شطرها الأخير بالتحديد ..
وغموض رباعيات (نوستر اداموس) ليس المشكلة الوحيدة ، التى تولجه أى دارس لكتابه ونبو ءاته، فالمشكلة الأكبر هى أن تجد نسخة صالحة للدراسة ، والمقصود هنا أن تكون نسخة صحيحة ، غير مزورة أو محورة ، فلأن للتنبؤ تأثيرا هائلا على الناس ، تم استخدام (نوستر اداموس) وكتابه كوسيلة دعائية للحرب النفسية ، منذ أوائل عام ١٦٤٩م عندما قام خصوم الكاردينال (مازاران) بنشر طبعة من (قرون) ، أضافوا إليها رباعيتين ضده ، للحد من نفوذه القوى فى البلاط الفرنسى .. وفى عصر (نابليون) أيضا تم تزوير الرباعات ، بإضافة رباعيات زائفة، أطلق عليها اسم (تنبؤات أوليفاريس) ، وبعدها ظهرت (تنبؤات أورفال) ، وكلتاهما كتابات زائفة ، نسبت دون حق للأشهر (ميشيل دى نوستر اداموس) .. وخلال الحرب العالمية الثانية وحدها ظهرت أكثر من خمس طبعات غير صحيحة من كتاب (نوستر اداموس) ، والمعنى هنا هو أنها قد اقتصرت على ما يفيد أحد الطرفين ، مع تجاهل باقى الرباعيات تماما .. لذا ، فكل دارس للرجل وكتابه ، يسعى للبحث عن أقدم نسخة ممكنة ، ويقارن محتواها بعدة طبعات أخرى ، حتى يتيقن أولا من أنه أمام نسخة حقيقية من كتاب (قرون)، قبل أن يبدأ عمله .. وهذه الدراسة نفسها احتاجت إلى جهد مضن ، لقراءة خمس طبعات من كتاب (نوستر اداموس) ، بثلاث لغات مختلفة ، قبل البدء فى كتابتها .. والوقع أن هذا لم يكن أمرا مرهقا ، بقدر ما كان ممتعا ، وخاصة عندما استقر الأمر على كتاب قديم نسبيا ، تعود طبعاته إلى منتصف السبعينات ، لباحث بذل جهدا حقيقيا فى التحقق من كل رباعية قبل نشرها .. والممتع هنا أن تطالع طبعة من منتصف السبعينات ، ثم تجد فيها إشارات واضحة لأحداث جرت بعد طباعتها بعدة سنوات ، وتقرأ محاولات الباحث المستميتة لتفسيرها ، باعتبارها تنبؤات مستقبلية ، بالنسبة لزمن بحثه ..
ورباعيات (نوستراداموس) ليست كلها محيرة ، ففى بعضها أسماء وشارات واضحة للغاية ، كتلك الرباعية التى أوردناها فى القسم الأول ، والتى تحدثت عن (هتلر) أو(هسلر) ، أو(هستر)، كما ورد فى طبعات بلغات مختلفة.. وهناك رباعيات مبهرة ، لأنها تحدثت عن أشخاص بعينهم ، وبأسمائهم أيضا ، كتلك الخاصة بلويس باستير ، مكتشف وجود الجراثيم ، والتى تقول : يكتشف المفقود ، المختبئ منذ عدة قرون .. سيحتفل بباستير كرمز لعظمة الإله .. يحدث هذا عندما يتم القمر دورته العظمى .. ولكنه ، ونتيجة لشائعات أخرى ، ستتلوث سمعته . هكذا ، ومباشرة يذكر اسم (باستير) ، الذى جاء بعده بأكثر من ثلاثة قرون ، والذى تحول إلى معجزة علمية ، عندما كشف وجود الجراثيم ، ثم لم يلبث هذا أن أثار غيرة وغضب وحفيظة منافسيه؛ نظرا لاعتبار كشفه - عندئذ - أهم الكشوف فى عالم الطب ، واعتباره الزعيم المعترف به لأكبر حركة علمية كيميائية ، وتأسيس معهده الشهير ، فهاجموا أسلوبه ، ومحاولاته لإنتاج لقاح مضاد لداء الكلب ، مما لوث سمعته فى أواخر أيامه ..
وفى رباعية أخرى ، أشار إلى (موسولينى)، المعروف فى التاريخ باسم (الدوتشى) ، وإلى خلافاته مع الملك ، ومعاداته للفاتيكان فى ذروة عهد ديكتاتوريته ، على نحو واضح للغاية ، قائلا : سوف يشر الملك على ما يرغب فيه بشدة ..حينما يؤخذ الأسقف بالظلم .. الرد سيغضب الدوتشى بشدة وسيقتل عدة أشخاص فى ميلانو .. ولكن أقوى الرباعيات الواضحة والمباشرة ، هى تلك التى أشارت إلى الجنرال (فرانكو) وأحداث (إسبانيا) .. فهى مدهشة ومثيرة ..
انتهى الجزء الثالث بحمد الله
ويليه الجزء الرابع بإذن الله