مايو ١٧٩١م.. أوج الثورة الفرنسية ، وبعد أن سقطت كل الرءوس ، وحتى رءوس قادتها التى طارت تحت المقصلة .. وثلاثة من الرعاع ، لعبت الخمر برءوسهم ، وسيطرت على عقولهم ، فأصروا على نبش قبر الطبيب والفلكى الأشهر (ميشيل دى نوستر اداموس)، كوسيلة همجية ساذجة، لتأكيد سيطرتهم على العهد السابق ، وامتهانهم لكل رموزه ومقدساته.. ولم تكن مهمتهم بالسيرة ، فالقبر مجرد حفرة بسيطة ، فى ساحة كنيسة قديمة، بداخلها تابوت من الخشب القديم ، الذى تهالك ونخره السوس ، بعد قرنين وأكثر فى التراب .. وبهمة وحماسة صنعهما السكر ، نبش الثلاثة القبر ، وتعالت صيحاتهم الظافرة ، وهم يرفعون غطاء التابوت ، و ...
وفجأة ، احتبست صرخاتهم فى حلوقهم، واتسعت عيونهم فى ذهول ، ماله من مثيل.. ولم يكن هذا بالطبع بسبب ذلك الهيكل العظمى المتهالك ، الذى تبقى من صاحب أشهر كتاب عبر القرون ، وإنما بسبب تلك اللوحة المعدنية القديمة ، المعلقة ، فى عنقه .. لوحة منقوش عليها تاريخ يومهم هذا.. السابع عشر من مايو ، عام ١٧٩١م.. وعلى ظهر اللوحة ، التى تنبأ كاتبها بتاريخ نبش قبره ، بدقة مذهلة ، كانت هناك رباعية تقول : بعد عامين من ثورة العامة ، وفى الشهر الخامس ثلاثة سكارى ينبشون القبر القديم اثنان يلقيان مصرعهما فى نفس الليلة والثالث ييقى مجنونا حتى النهاية .. ومع ذهولهم، تراجع الرجال الثلاثة ، وامتلأت قلوبهم برعب شديد ، وحاولوا الفرار من المكان ، ولكن دورية من دوريات الثورة لمحتهم ، وأطلقت عليهم النار ، فلقى اثنان مصرعهما، وأصيب الثالث بالجنون ، من فرط الرعب والذعر ..
وبهذه الواقعة ، التى لم ترد فى مصادر تاريخية كافية ، بدأت مشاهد أشهر وأقوى فيلم تسجيلى عن (نوستر اداموس) ، باعتباره معجزة يهودية، على الرغم من اعتناق أسرته للمسيحية فى حداثته ، واعتناقه هو لها ، حتى آخر يوم فى حياته .. وعلى الرغم من أن الفيلم من إنتاج عام ١٩٨٤ م، ويقوم بتقديمه الفنان العالمى (أورسون ويلز) ، إلا أنه ، وفى نهايته ، تحدث عن نبوءتين ، اعتبرهما - عندئذ - من المستقبليات .. عن حرب الخليج (عاصفة الصحراء) ، واجتماع الكل على العراق ، الذى سيضرب جيرانه بالصواريخ .. وعن ضربة ( نيويورك ) ، عام ٢٠٠١م.. ولعل هذا أكثر ما ييهر فى الفيلم القديم .. وفى نبوءات ( نوستر اداموس ) أيضا ..
واستعراض حياة (ميشيل دى نوستراداموس) يثبت أنه لم يكن عبقرية فلكية فحسب ، ولكن عبقرية طبية أيضا .. وربما على نحو أكثر قوة .. ففى شبابه ، وبعد حصوله على شهادته الطبية بتفوق ، وممارساته المدهشة للطب والعلاج ، وقعت الكارثة فى (أوروبا) .. الطاعون الأسود.. عشرات تساقطوا أمام الوباء الرهيب، ورائحة الموت ملأت كل القرى والمدن والبلاد، مع فشل كل طرق المقاومة والعلاج . فيما عدا طريقة (نوستر اداموس).. فعطى الرغم من أن الرجل كان طبيبا فى النصف الأول من القرن السادس عشر ، بعلومه القليلة المحدودة ، وجهله التام بوجود كائنات دقيقة ممرضة ، مثل الجراثيم والميكروبات والفيروسات ، إلا أنه تعامل مع المرض بعبقرية مذهلة ، وكأنه يطبق جزءا من تنبؤاته أيضا .. لقد كان يضع المريض فى حجرة جيدة التهوية ، ذات نوافذ مفتوحة ، ويوقد النار فى المدفأة فى الوقت ذاته ، ويحرص على غلى كل الأدوات المستخدمة معه ، وكل ملابسه ، وتغيرها يوما فيوما ، كما استخدم علاجا لم يتوصل إليه العلم إلا منذ سنوات قليلة جدا.. الماء الساخن ..كان يسقى المريض الماء الساخن خمس مرات يوميا .. وبمنتهى الاثتظام .. لذا فقد شفى معظم مرضاه .. فيما عدا زوجته وابنيه منها ..
ولقد كان لهذا أسوا الأثر فى نفسية (ميشيل نوستر اداموس)، وحياته فيما بعد ، ولسنوات عديدة تالية ، فإلى جوار حزنه وألمه لفقدهم ، فقد راحت أسرة زوجته تحاربه ، لإجباره على إعادة دوطتها بعد وفاتها ، وعندما فشلت فى هذا ، اتهمته بالهرطقة ، وخاصة مع شهرته الواسعة فى شفاء مرض الطاعون ، والتى اعتبرها البعض نوعا من السحر ، وليس الطب .. وهرب (ميشيل) ، خوفا من محاكم التفتيش .. ومن شهرته كلها.. ولكن هروبه هذا كان له أكبر الأثر فى حياته ، فلقد توطدت علاقته بأشهر فلاسفة عصره (سيزار سكاليجر) ، مما شحذ ذكاءه ، وضاعف قدره وشهرته ، حتى تزوج مرة أخرى من أرملة ذات ثروة وجاه ، استقر معها وفى منزلها ، الذى اتخذ لنفسه مكتبة فى طابقه العلوى ، قضى خلالها معظم لياليه ، ووضع فيها أولى لبنات رائعته الخالدة (قرون) ..
وفى عام ١٥٥٥ م ، نشرت الطبعة الأولى من (قرون) متضمنة القرون الثلاثة الأولى ، وجزءا من القرن الرابع .. واسم (قرون) هذا خادع للغاية ، فالكتاب لايتحدث عن القرون الزمنية التى نعرفها ، وإنما حمل هذا الاسم؛ لأن (نوستر اداموس ) قد وضع تنبؤاته فى شكل رباعيات يحوى كل قرن مائة منها .. والأحداث فى (قرون) (نوستر اداموس) غير مباشرة ، وغير مرتبة تاريخيا ، ولم يكن من الممكن أيدا أن يجازف بالعكس ، فى زمن أعدم فيه من هم أكثر أهمية وشهرة منه ، لأسباب تقل عن هذا كثيرا .. وحتى وهو يكتب رباعياته ، لم يضعها بأسلوب يسهل فهمه ، فقد وضعها رباعيات شعرية ، تمتزج فيها اللاتينية ، والبروفتسالية ، والإيطالية ، والإغريقية ، وببارات رمزية ، تماما كما فعل مع الملكة (كاترين دى مديتشى) ، التى انبهرت بشهرته وتنبؤاته ، فاستدعته إليها ، وطلبت منه أن يتنبأ بمستقبل أبنائها الأربعة ، فصمت (نوستر اداموس) طويلا ، ثم أخبرها أنه من نسلها يرى أربعة ملوك .. ولم يشر (نوستر اداموس) قط إلى وفاة أحد أبنائها ، وإن لم يكذب أيضا فى عبارته، لأن أحدهم أصبح ملكا على (بولندا) ، ثم على (فرنسا) فيما بعد ..
ولقد أنهى (ميشيل دى نوستر الاموس ) قرونه العشرة عام ١٥٦٦م، أى فى نفس عام وفاته ، ولكنها لم تنشر كاملة إلا فى عام ١٥٦٨م.. ولسبب ما، لم تحمله لنا أوراق (ميشيل) أو مذكراته ، لم يكتمل القرن السابع من قرونه ، واقتصر على اثنين وأربعن رباعية فحسب، وليس مائة رباعية كالقرون الأخرى .. والمثير أن يحدث هذا مع القرن السابع بالتحديد ، خاصة وأن الرقم سبعة يرتبط بالعديد من المقدسات ، فى معظم الأديان ، وبعدد السموات والأراضى ، وأيام الأسبوع وغيرها .. والمطالع لكتاب (نوستر اداموس) سيجد الكثير من الغموض والحيرة، بالنسبة لتنبؤاته يصعب تفسيرها، وربما تتعلق بمستقبليات لم تحدث بعد ، ولكنه سيجد أيضا ما يثير دهشته وذهوله حتى النخاع ، وخاصة عندما يطالع تنبؤات حدثت بالفعل ، فى الفترة ما بين ظهور (قرون) ، ووقتنا الحالى ..
وفى بعض الأحيان ، يكون تعرف زمن النبوءة ممكنا ، عندما يربطها (نوستر اداموس) بحالة فلكية خاصة، لايمكن أن تحدث إلافى ظروف وحقبات بعينها ، ولعل أشهر تنبؤاته القريية - نسبة إلى زمنه - تلك الخاصة بالثورة الفرنسية ، والتى حدد حدوثها بالأعوام الاثنى عشر الأخيرة ، من القرن الثامن عشر ، وقال فيها : من العامة المستعبدة حماسة ومطالب وأغنيات فيما يوضع الأمراء والملوك أسرى فى السجون هؤلاء يستقبلهم حمقى دون رءوس فى المستقبل باعتبارهم مصلون مقدسون .. وفى الزمن الذى حدده (١٧٨٩ م)، اندلعت الثورة الفرنسية، وارتفعت أغنياتها وحماستها ، وطالب الكل بمحاكمة العهد القديم ، ووضع الملوك والأمراء فى السجون ، ثم قطت رءوسهم ، على يد المتآمرين ، الذين حظوا بالمصير ذاته فيما بعد .. نبوءة مدهشة .. ولكن تلك الخاصة بأمرة (كيندى) كانت مدهشة أكثر .. بل مذهلة .. وبكل المقاييس .