recent
أخبار ساخنة

الزمكان (الجزء الأول)

مصطلح لم تألفه عيوننا ، وآذاننا ، ولم تدركه عقولنا، ربما حتى لحظة كتابة هذه السطور، على الرغم من أنه مصطلح علمى بحت، يتم استخدامه (واستعدوا للمفاجأة)، منذ عام ١٩٠٥م.. نعم.. إنك لم تخطئ قراءة التاريخ، وهو ليس خطأ مطبعيا بالتأكيد، فالمصطلح مستخدم علميا بالفعل ، منذ عام ألف وتسعمائة وخمسة.. أى منذ مايقرب من قرن كامل من الزمان.. ففى نلك العام، نشر عالم شاب ، يدعى (ألبرت أينشتين) ، نظرية علمية جديدة ، اعتبروها ثورة عنيفة فى عالم الفيزياء والرياضة ، وأطلق عليها اسم (النظرية النسبية الخاصة) .. وفى تلك النظرية ، استخدم (أينشتين) ، وربما لأول مرة ، ذلك المصطلح العجيب المثير .. الزمكان .. 
والمصطلح ، ببساطة شديدة ، يعنى السفر عبر الزمان والمكان فى آن واحد .. أو بمعنى أكثر شمولا ، يعنى تفجر خيال العلماء إلى حد أو نحو لم يبلغه ، أو ينجح فى بلوغه أحد ، قبل أن يطرح (أينشتين) نظريته المثيرة .. جدا .. ففى ذلك الحين ، كان السفر عبر الزمان وحده ، يعد ضربا من خيل جامح ، فجره الأديب ، والروائى، والصحفى الإنجليزى ( هربرت جورج ويلز) ، خريج جامعة (لندن) ، والمغرم بمطالعة العلوم ، عندما نشر تحفته الرائعة (آلة الزمن ) ، عام ١٨٩٥م. 




ففى تلك الرواية ، وثب بطل (ويلز) عبر الزمن ، لينتقل من خلال آلته العجيبة ، إلى المستقبل البعيد ، الذى رسم له المؤلف حينذاك صورة ذهنية عبقرية، بدأت بما يشبه المجتمع المثالى ، حيث يعيش السكان المنعمون ، فى عالم أفيق جميل ، تحيط به الأنهار والزهور والحدائق الغناء من كل جانب ، قبل أن يكشف البطل وجود عالم آخر تحت الأرض ، سكانه من أشباه الوحوش، الذين يعملون بلا كلل أو ملل ، للإبقاء على عالم ما فوق الأرض ، الذى اتضح فى النهاية أنه مجرد مزرعة طعام لهم، حيث يختطفون سكانه ، ليأكلوهم كالأغنام .. وتلك الصورة أفزعت عالم نهايات القرن التاسع عشر ، وبهرتهم فى الوقت ذاته ، خاصة وأن (ويلز) كان أول من أشار إلى تفوق جنس العمال ، فى المجتمعات الصناعية ، مع مرور الزمن ..
وأول من تحدث أيضا عن آلة الزمن .. تلك الآلة المعجزة ، التى خلبت لب المؤلفين ، منذ زمن (ويلز) ، وحتى يومنا هذا، لما تمتلكه من قدرة فريدة مدهشة ، على أن تخترق براكبها نهر الزمن ، وتنقله إلـى أى زمن يشاء ، فى طرفة عين .. وبعد (ويلز) ، تفجر خيال الكتاب والمؤلفين ، ورجال الفن أيضا ، وانهمرت علينا عشرات التخيلات والأفكار ، وسرح خيالنا مع الفكرة ، و .... وفجأة، خرجت إلى العالم نظرية النسبية الخاصة ، وأطلق ( ألبرت أينشتين) مصطلحه الجديد ، مع معادلات رياضية مؤكدة ، تفتح عيوننا على ظاهرة جديدة، وتديل جوهرى لكل ما عرفه العالم من قواعد قبلها .. فلأول مرة ، أضاف (أينشتين) إلى الأبعاد الثلاثة المعروفة ، الطول ، والعرض ، والارتفاع ، بعدا رابعا ، لم يشر إليه عالم واحد من قبله .. الزمن .. وفى نظريته المدهشة ، التى حيرت علماء جيله ، أثبت ( أينشتين) أن الزمن بعد رئيسى فى الحياة ، وفى كل القياسات الجادة ، فى الرياضيات والفيزياء ، وباعتباره كذلك ، فهو ككل الأبعاد الأخرى ، يمكن السير فيه إلى الأمام والخلف أيضا.. 




وكانت هذه مفاجأة مذهلة ، سواء للعلماء، أو للعامة أيضا.. فمع النظرية الجديدة ، لم تعد قصة (ويلز) عن السفر عبر الزمن مجرد خيال محض .. لقد صار احتمالا علميا منطقيا أيضا .. واعترض علماء بدايات القرن العشرين ، واستنكروا ، واستهجنوا ، ورفضوا كل ما جاء به (أينشتين) .. أما الأدباء والمفكرون ، فقد فجر الأمر خيالهم أكثر وأكثر ، وأطلق فى أعماقهم ألف فكرة، ومليون احتمال ، راحوا ينقلونها جميعها إلى الورق ، ليمتعوننا بسيل من الكتب والأفكار والروايات ، والخيالات الجامحة ، التى تصورت فكرة عودة البعض إلى الزمن الماضى، لإحداث تغيرات ، تؤدى بدورها إلى تغيير أحداث جوهرية ، تمتلئ بها كتب التاريخ .. وفى الوقت الذى أقنع فيه (أينشتين) كل العلماء بنظريته وعبقريته ، وخرج إليهم بنظرية النسبية العامة، عام ١٩١٥ م، كان فريق من الأدباء قد تبنى بالفعل فكرة السفر عبر الزمن ، وآمن بإمكانية حدوثها، بل وصار يحلم بهذا أيضا ، ويدافع عنه بحماسة واستماتة لا حدود لهما.. 
ففكرة السفر عبر الزمن مثيرة حتما ، وتمنح الإنسان أملا خياليا فى تغيير حاضره، ومستقبله، بل وربما مستقبل العالم أيضا .. ولأنه من الطبيعى أن يكون لكل فعل رد فعل ، مساو له فى القوة ، ومضاد له فى الاتجاه ، فقد تبنى فريق من العلماء فكرة عكسية ، ترفض بعنف احتمالية السفر عبر الزمن ، وتصفه بالخبل الوهمى .. ولقد استند العلماء الرافضون إلى نظرية علمية فلسفية ، أطلقوا عليها اسم نظرية (السببية) .. وتلك النظرية تعتمد على أن العالم كله وحدة واحدة، فلو تمكن شخص ما من السفر عبر الزمن إلى الماضى، وأحدث تغيرا، مهما بلغت بساطته، فسيؤدى هذا إلى حدوث موجة متزايدة من التغيرات ، يمكن أن يتغير معها تاريخ العالم كله ، مما يهدد وجوده هو نفسه فى المستقبل .. ثم إن قدرة المرء على إحداث تغيير فى المستقبل ، تمنحه قدرات هائلة ، لا يمكن أن تتوافر لبشرى ، مهما بلغت قوته أو مكانته .. 
فلنفترض مثلا أن أحد العلماء وقد رأى أن الحرب العالمية الثانية كانت لها ويلات رهيبة ، وأن هذا كان بسبب أفكار ( هتلر ) وتعنتاته ، فاستخدم آلة زمن وهمية ، وسافر إلى الماضى ، وقتل ( هتلر ) ، قبل أن يتبوا منصبه فى الحزب النازى ، فهل يمكن أن ينتهى الأمر عند هذا الحد ؟! فعدم اندلاع الحرب العالمية الثانية سيغير مصير العالم كله ، وتوازناته ، وأعداد سكانه ، وقدراته التكنولوجية والعمية ، مما يعنى أن آلة الزمن ، التى سافر هو بها ، لن تتاح لـه فى الغالب ، مما يمنعه من السفر ، وتغيير الماضى ، و ... وهكذا ندخل فى دائرة مفرغة غريبة ، لا يمكن حسمها ، أو فهمها ، أو الاقتناع بإمكانية حدوثها أبدا .. ثم مادا لو سافر آخر ، وأنقذ (هتلر) .. وبعدها جاء ثالث ، لينفيه إلى (روسيا) .. عندئذ سيرتبك التاريخ كله، على نحو أشبه بالعبث ، الذى لا يمكن أن يسمح به الخالق (عز وجل) .. 




إذن فالفكرة نفسها عبثية ، وهمية ، خيالية ، يستحيل حدوثها فى عالم الواقع .. ولقد تابع (أينشتين) كل هذه المحاورات والمداورات ، ولمناظرات، الحامية ، بين مؤيدى ومعارضى فكرة السفر عبر الزمن ، دون أن يعلق على هذا أو ذاك بحرف واحد؟ لأن نظريته لم تكن تسعى خلف هذه السخافات والترهات .. ثم إنهلم يشغل نفسه لحظة بعملية السفر عبر الزمن وحده .. بل بالسفر عبر الزمكان .. أى عبر الزمان والمكان فى آن واحد .. ولكى نفهم ما يعنيه هذا، ينبغى أن نتخلـى عن فكرة السفر عبر الزمن ، ونركز كل تفكيرنا على السفر عبر الفضاء .. نعم.. عبر الفضاء الكونى ، فهذا بالضبط ما كان يعنيه ( أينشتين) ، عندما أطلق مصطلحه الجديد المثير هذا ، فقد جاءت نظريته لتفتح الطريق، أمام فكرة السفر عبر الفضاء ، إلى مسافات لم ييلغها العقل البشرى بعد ، عن طريق السفر فى الزمان والمكان معا .. 
فمنذ تطور علم الفلك ، فى النصف الثانى من القرن التاسع عشر، ظهر مصطلح محبط ، لكل من كانوا يحلمون بالسفر إلى النجوم البعيدة حينذاك .. مصطلح السنة الضوئية .. وهذا المصطلح يعنى المسافة التى يقطعها الضوء ، لو انطلق فى الفضاء ، لمدة سنة زمنية كاملة ، باعتبار أن سرعة الضوء تساوى مائة وستة وثمانين ألف ميل ، فى الثانية الواحدة .. هل يمكنك أن تتصور إذن المسافة التى يمكن أن يقطعها الضوء ، فى سنة كاملة ؟! إنها ستة عشر مليارا، وسبعون مليونا ، وأربعمائة ألف ميل.. أى حوالى خمسة وعشرين مليارا، وثمانمائة واثنين وستين مليونا، وثمانمائة وواحد ألف ، وثمانمائة وثمانية عشر كيلومترا.. هل أزعجك الرقم ، وبدا لك ضخما أكثر مما ينبغى ؟! استعد للمفاجأة إذن؛ فهذه المسافة الهائلة تساوى وحدة فلكية واحدة ، فى قياس المسافات الكونية ، وتحديد بعد النجوم الأخرى عن مجرتنا (سكة اللبانة) . 
ولو أن أقرب النجوم إلينا يبعدعنا وحدة فلكية واحدة أى سنة ضوئية واحدة ، فهذا يعنى أن وصولنا إليه يحتاج إلى سفينة فضاء خاصة، يمكنها أن تنطلق بسرعة الضوء ، لمدة سنة كاملة، دون أن تتوقف، أو تخفض سرعتها لحظة واحدة .. والاحتمال يبدو ، من الناحية المنطقية ، والرياضية أيضا ، أمرا مستحيلا بكل الوجوه.. لهذا كانت المفلجأة الجديدة ، أننا نستطيع بلوغ ذلك النجم المفترض ، فى زمن أقل من هذا بكثير ، ودون حتى أن نبلغ سرعة الضوء.. وهذا القول علمى .. تماما . 
انتهى الجزء الأول بحمد الله
إلى اللقاء فى الجزء الثانى 
الزمكان (الجزء الأول)
منتدى مصطفى شاهين التعليمى

تعليقات

ليست هناك تعليقات
إرسال تعليق
    google-playkhamsatmostaqltradent