مع بداية العقد الثانى ، من القرن العشرين ، تضاعف اهتمام الأمريكيين فجأة بالتنبؤات والمتنبئين ، وعادوا ينبشون المكتبات وكتب التاريخ ، بحثا عن مشاهير المتنبئين القدامى ، وانتشرت صرعة عجيبة لإثبات صحة تنبؤاتهم الماضية ، وتأكيد حتمية حدوث تنبؤاتهم التالية ..
وفى مناخ كهذا ، من الطبيعى أن ينتشر الدجل والخداع ، وأن يظهر عشرات النصابين ، الذين يدعون قدرتهم على قراءة الطالع، وكشف الغيب، والتنبؤ بالأحداث المستقبلية ، خاصة وأن أحدا لايمكنه معرفة ما سيحدث فى المستقيل ، مما يجعل الاعتراض على ما يقوله أى نصاب أمرا عسيرا للغاية ..
وفى وسط هذا كله ، ظهر (إدجار كايس) .. كان شابا هادئا، على عكس الآخرين ، لا يميل إلى الاستعراض والتباهى، ويحمر وجهه خجلا كالعذراء، إذا ما وجه إليه أحدهم عبارة استحسان ، أو كلمات إعجاب وتقدير ، أو حتى جملة شكر أنيقة..
وعلى عكس الآخرين أيضا ، لم يكن (كايس) من ذلك النوع، الذى يمكن أن تلقى عليه سؤالا عن أحداث مستقبلية ، فيضع أصابعه على جبهته ، ويدير يده الأخرى فى الهواء ، ثم يخرج الجواب بأسلوب مسرحى مثير ، بل كان يؤكد دوما أن التنبؤات أو الرؤى ، كما كان يحلو له تسميتها ، تأتيه وقتما تشاء، وليس عندما يشاء هو ..
ففى لحظات عادية ، كان (كايس) يصاب بشرود مباغت ،وتنقلب عيناه داخل محجريهما ، على نحو عجيب ، ويدخل فيما يشبه الغيبوبة ، وخلالها يلقى نبؤته ، ثم لايذكر الكثير عنها ، عندما يستعيد وعيه بعد قليل ..
ولأن ذلك الزمن كان يميل إلى المسرحية والاستعراض ، تأخر (كايس) عن أقرانه ، ولم يحظ بشهرتهم ، أو تلقى عليه الأموال الوفيرة مثلهم .. ثم إنه أيضا لم يسع لهذا أبدا .. حتى كانت فترة الثلاثينات ، وما صحبها من اختنـاق اقتصادى رهيب ، فى الولايات المتحدة الأمريكية ..
أيامها ، وبينما راح البعض ينبش فى تنبؤات (نوستراداموس) العراف الفرنسى الأشهر ، بحثا عن أية نبؤة ، تتحدث عن انفراج الأزمة ، كشف أحدهم فجأة ، أن كل تنبؤات (إدجاركايس) خلال السنوات العشر الأخيرة ، قد تحققت على نحو مدهش ، وفى نفس التوقيتات التى حددها فى نبؤاته .. وهنا تفجرت الشهرة فجأة .. ومن كل صوب ..
واستيقظ (كايس) ذات صباح ، ليجد الصحفيين يحيطون بمنزله ، ومصابيح تصويرهم تسطع فى وجهه ، وعشرات الأسئلة تنهال فى أذنيه.. وفى اليوم التالى ، كان (كايس) ضيفا على خمس شبكات إذاعية ، وصوره تملأ الصفحات الأولى ، فى خمس وسبعين صحيفة، محلية وعامة.. وخلال أسبوع واحد، أصبح ( إدجار كايس) أشسهر عراف ، ليس فى (أمريكا) وحدها ، ولكن فى العالم أجمع ..
ولسنا هنا بصدد سرد تنبؤات (كايس)، أو التحمس لها ، أو حتى مناقشة صحتها من عدمها ، ولكننا سنتوقف فقط عند نبؤة واحدة ، ترتبط ارتباطا وثيقا مباشرا ، بالأسطورة التى نتحدث عنها.. أسطورة ( أطلانطس) ..
ففى يونيو عام ١٩٤٠م، وفى أثناء واحدة من نوبات غيابه عن الوعى ، الذى جعلته يوصف بأنه وسيط روحانى قوى ، أعلـن (كايس) أن (أطلانطس) حقيقة ، وأن أجزاء منها سوف تبرز من قلب المحيط الأطلنطى ، فى عام ١٩٦٨م، أو ١٩١٩م، وحدد تلك الأجزاء بأنها من الطرف الغربى للقارة الأسطورية ، والمسمى (بوسيديا) ، وأنها ستظهر بالقرب من جزر (البهاما) ..
وأدهشت النبوءة العديدين ، حتى أولئك الذين يؤمنون تماما بموهبة (كايس) ، إذ لم تكن الظروف تحتمل الحديث عن أمر كهذا ، والكل كان يتوقع منه نبوءة حول نهاية الحرب العالمية الثانية ، التى بلغت أوجها حينذاك ، والتى كادت تلتهم العالم كله ..
الكل كان ينتظر حديثا عن ( ألمانيا) النازية ، أو (هتلر) أو حتى عن سقوط (إنجلترا) فإذا به يتحدث عن (أطلانطس) وظهورها المنتظر ، بعدما يزيد عن ربع قرن قادم من الزمان ..
وتجاهل معظم الناس نبوءة (كايس) حول ( أطلانطس) ، وألقوها خلف ظهورهم، وخصوصا مع تنبؤاته التالية ، التى أشارت إلى أن الولايات المتحدة الأمريكية سترغم على دخول الحرب ، وأن (روسيا) ستسقط جزئيا فى قبضة النازيين ، قبل أن تنهض لتهزمهم شرهزيمة فيما بعد..
حتى المهتمين بعلوم قارة (أطلانطس) لم يتوقفوا كثيرا أمام نبوءة (كايس) ، باعتبارها عن مستقبليات ، لاسبيل إلى التأكد منها فى زمنهم، أو حتى إيجاد المنطق العلمى لحدوثها بعد..
ومرت السنوات ، وتحققت نبوءات (كايس) الخاصة بالحرب ، ودخلت (أمريكا) الحرب العالمية الثانية مرغمة، بعد أن قصف اليابانيون ميناء (بيرل هاربور) واجتاح النازيون (روسيا) ، ثم اندحروا على أبواب (موسكو) وراحوا يتراجعون ، وسط الـبرد والجليد ، ليلقوا هزيمة ساحقة فيما بعد ، دفعت ( هتلر) نفسه إلـى الانتحار ..
ووسط هذا الخضم من الأحداث ، نسى الكل نبوءة (كايس) ، الخاصة بقارة (أطلانطس) .. نسوها تماما ..
ولكن عام ١٩٦٨م جاء، وظهرت معه تلك البقايا ، التى برزت من قلب المحيط ، بالقرب من جزر (البهاما) .. تماما فى نفس الزمان والمكان ، اللذين حددهما (كايس) فى نبوءتة القديمة ، منذ ما يزيد عن ربع القرن ..
ونستطيع أن نؤكد ، دون ذرة واحدة من المبالغة ، أن الخبر قد حبس أنفاس جميع الأمريكيين ، والكاميرات تنقل صورة الأبنية الحجرية ، والأطلال القديمة ، التى ظهرت بالقرب من سطح الماء ، عند شاطن جزيرة (بايمين) ، إحدى جزر (البهاما) ، وتسترجع مع المشاهدين نبوءة (كايس) القديمة ، ثم تضيف إلـى هذا آراء الخبراء وعلماء الآثار ، الذين أكدوا أن طرز تلك المباتى ، لاتشبه أية طرز حضارية قديمة معروفة ..
وكان هذا يعنى أمرا واحدا لاغير .. أن هذه بالفعل اطلال (أطلانطس) القديمة .. وأن (أطلانطس) حقيقة .. ومن سوء الحظ أن تلك الأطلال لم تبق فى موضعها طويلا، إذا سرعان ما غاصت مرة أخرى فى أعماق المحيط ، وعلـى مسافات لم يكن من الممكن أن يبلغها البشر أبدا .. فقط بقيت الصور ، وتعليقات الخبراء ، ونبوءة (كايس) القديمة ، وخيال وعقول الملايين ..
ولأن الوقت لم يسمح للعلماء والدارسين والباحثين بالتيقن من الأمر ، والحصول على أدلة مادية ، فقد بدءوا يختلفون حول الأمر ، بعد أسبوع واحد من غوص الأطلال ، عائدة إلى الأعماق ..
البعض استنكر الأمر كله ، وأصر على أنها مجرد مصادفة ، قد يبلغ احتمالها الواحد فى كل ستة ملايين ، ولكنه احتمال وارد وقائم ، وبخاصة مع غياب أى دليل مادى آخر ..
أما البعض الآخر فقد اقتنع تماما بما حدث ، واعتبر أن هذا أقوى دليل على وجود (أطلانطس) فى تاريخ الأسطورة كلها .. وبين أولئك وهؤلاء ، وقف (تشارلز بيرلتز) ..
و (بيرلتز) هذا بدأ حياته العملية كمترجم ، ثم لم يلبث أن اهتم بالظواهر الغريبة ، والأمور غير المحسومة ، فى عالمنا الضخم ، وشغف كثيرا بتعقب كل أمر غامض ، والسعى خلف كل لغز عميق ، بحثا عما يؤيده أو ينفيه ..
ومن هذا المنطلق ، ولأن كتابه عن (مثلث برمودا) قد حقق نجاحا مدهشا، ومبيعات لم يحلم بها كاتب مثله، قرر (بيرلتز) ، الذى هو فى الوقت ذاته غواص ماهر بارع ، أن يغوص بنفسه ، مع فريق من المعاونين ، فى منطقة جزر (البهاما) ، بحثا عن أى دليل مادى ، على وجود ( أطلانطس) ..
ولقد رفض العلماء التعليق على محاولة (بيرلتز) ، وتأييدها أو استنكارها ، واكتفوا بالصمت، وبهز الأكتف فى استهتار ، وكأنهم خشوا اتخاذ موقف واضح ، تثبت تطورات الأحداث عكسه ، فتهتز صورتهم فى عيون الآخرين ، وتضيع هيبتهم ومصداقيتهم كعلماء لهم وزنهم فى مجالاتهم ..
وغاص (بيرلتز) وفريقه ..
غاص فى منطقة جزر (البهاما) ، وحولها ، و ..
وكانت فى انتظارهم مفاجأة مذهلة ..
مفاجأة لايمكن أن تخطر على عقل مخلوق ..
أى مخلوق ..
انتهى الجزء الرابع
ويليه الجزء الخامس بإذن الله